ابتكار التكنولوجيا في ذاته لا يعني تحقيق المكسب المادي، ولن يحصل جنى الأرباح من تقنية معينة بسرعة، ولكن هناك ترتيب زمني معين ومراحل لا بد أن تمر به أي تقنية للوصول إلى مرحلة جني الثمار وتحقيق عوائد تُسهم في تطوير تلك التكنولوجيا وانتشارها، وخصوصًا تلك التقنيات المتعلقة بالمحتوى والإعلام والنشر الالكتروني.
يبحث مبتكروا “التقنية technology” في البداية عن “المستخدم user” الذي يدفع مقابل استخدامه، ولكن التقنية في حد ذاتها قد لا تكون ذات نفع للمستخدم النهائي، بدون “محتوى content” ذي قيمة بالنسبة له.
فمثلًا “شبكة الإنترنت” لم تكن ذات قيمة هامة لكل إنسان كما تم اختراعها خلال الفترة (1950 – 1970م) كشبكة تبادل بيانات بين جهازي كمبيوتر. ولكن تطورت تلك التقنية إلى أن تمكنت من تبادل البيانات بين عدد ضخم من الأجهزة، على أن تكون تلك البيانات من نوع مطلوب ومميز، كنقل الكتب من مكتبة جامعية في ولاية شمالية إلى أخرى مثيلة في ولاية جنوب أمريكا الشمالية. هذا هو “المحتوى” القيّم الذي سيُمكِّن المستخدم النهائي أو الشخص العادي من تقدير تلك التقنية وشرائها.
ثم يأتي دور المحتوى (أو القيمة value المتضمنة في التكنولوجي) في جذب المستخدمين لاستخدام هذه التقنية، وبعد فترة قد تكون قصيرة أو طويلة يبدأ مبتكرو التقنية في جني “العوائد revenues” من الشركات المُصنعة أو كبار الموزعين والموردين إلى أن يقوم المستخدم النهائي بدفع اشتراك أو قيمة المنتج أو الخدمة الإعلامية التي تُقدَّم له. ليُخَصص جزء من هذه العوائد لتطوير التقنية وجزء آخر كأرباح للمصنعين والمطورين والموزعين… إلى غير ذلك من سلسلة المستفيدين.
وجزء أساسي من التقنيات المتعلقة بالإعلام وتقديم المحتوى مرتبط بتقديم “الإعلانات advertising” لتزيد العوائد ويزيد التطوير وتزيد رغبة المطورين في رفع كفاءة التقنية ويُرغِّب المُعلنين صُنّاع المحتوى في زيادة ما يقدمونه من قيمة للمستخدم النهائي، وهكذا في دورة مغلقة تُسمى دورة “التكُّيف التكنولوجي technology adoption cycle”.
هكذا بدأ “الهاتف الجوال” كتقنية تم اختراعها في 1973م لتقوم بتقديم أثير يستطيع الناس من خلاله نقل محتوى (الكلام) خلال الاتصال بشكل أكثر حرية من قبل، ولكن ظل 10 سنوات تحت التجربة والتطوير وبناء بنية تحتية له، باستثمار من شركة الاتصالات “موتورولا” -التي كانت تُصنِّع تقنيات الاتصال عبر موجات الراديو آنذاك- حتى خرج أول هاتف جوال في عام 1983م إلى جمهور من المستخدمين ليوفر خدمة عظيمة وهي سهولة التواصل وتبادل الكلام والصوت (المحتوى content) مع حرية الانتقال خارج المنزل.
أقبل الناس (المستخدمون users) على شرائه وبالتالي ظهرت أول عوائد من تسديد المُشترين لثمن التقنية ومشتملاتها (الجهاز والخدمة التي تتضمن المحتوى أو القيمة، لكن هامش الربح في البداية كان محدودًا وكانت تذهب أغلب العوائد في تطوير الهواتف وشبكات نقل الاتصال.
ثم مع تضمين قيمة جديدة لمحتوى الهواتف الخلوية، بعد اختراع رسائل التجوال القصيرة sms عام 1990م، بدأت الشركات المُصنعة ومقدمي الخدمة بتحقيق مكاسب مالية من الهواتف المحمولة، وكان الانتشار أكثر بعد سنوات قليلة، مع وصول الهواتف متعددة الإمكانات (ذات الكاميرا، وتصفح الإنترنت وتصفح البريد الالكتروني وتسجيل المذكرات…).
ثم النقلة الكبرى عام 2007 مع ظهور أجهزة شاشة اللمس من شركة “أبل” مع متجر غني بالتطبيقات التي تزيد من قيمة الهاتف وتخلق تنوعًا يسمح بانتشاره أكثر. ومع وجود محتوى متجدد ومتنوع ومميز عبر الموبايل، ظهرت شبكة من المُعلنين تستخدم تلك التطبيقات لنشر الإعلانات والحصول على عائد يصب في مصلحة كل القائمين على التقنية الأساسية (الهاتف الجوال الذكي). حتى أنه سبق تكنولوجيا “الانترنت” التي تحتاج لبنية تحتية وشبكات أكثر تكلفة لزيادة انتشارها حول العالم.
على نفس المنوال سارت تقنيات التليفزيون والراديو منذ أكثر من ثلاثين عام. ولا زالت كل التقنيات الإعلامية في سباق وتنافس شديد لتقديم محتوى مميز، وجذب مستخدمين جدد.
تُري من سيكون الأظهر والأكثر استحواذًا للجمهور “والأرباح!” بعد 30 عامًا من الآن؟